قصص عالمية

قصة القاتل | قصص

ADVERTISEMENT

محام مبتدئ شاب أوكل إليه الدفاع عن مجرم ، فما كان منه إلا أن تقدم بالمرافعة التالية : الأحداث كما جرت أيها السادة المحلفون ، لا يمكن انكارها ، موكلي ، هو رجل شريف ، موظف لا مأخذ عليه ، لطيف خجول ، قام بقتل رب عمله بغضب يبدو لي غير مفهوم ، هل تسمحون لي سيكولوجية هذه الجريمة ؟ ، إن جاز لي ذلك دون التخفيف من أي شيء ودون انتحال الأعذار ، أما حكمكم فستصدرونه فيما بعد..

نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الفرنسي ، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون، ولد موباسان ، بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، وكان من أشهر الكتاب الفرنسيين ،اشتهر بكتابة القصص القصيرة والروايات ذات الطابع الواقعي ، وكان يكتب باللغة الفرنسية فقط ، ومن أشهر أعماله بيل أمي .

التعريف بالمتهم :
جان نيكولا لوجير  ، هو سليل أناس شرفاء جعلوا منه رجلًا بسيطًا محترمًا ، وهنا تكمن الجريمة ، الاحترام ! إنه شعور ، أيها السادة ، لم نعد نعرفه في أيامنا هذا ، لكن اسمه بقي واختفى بأسه وسلطانه ، يتوجب علينا الدخول إلى قلب عائلات مختلفة ، ومتواضعة لكي نجد هذا التقليد المتوارث الصارم ، هذا التدين المرتبط بالأشياء أو بالإنسان ، بالشعور أو بالعقيدة المرتديه لهذه السجايا المقدسة ، هذا الايمان الذي لا يحتمل الشك ولا الابتسام ولا الريبة .

بداية المرافعة :
لا يمكن لأحد أن يكون رجلا شريفًا حقًا ، بكل ما للكلمة من معنى ، إلا إذا كان يحترم الاخرين ، فالرجل الذي يجل تكون عينيه مغمضتين ، إنه يؤمن بذلك أما نحن ، ذوي النظر الحاد المسلط على العالم ، والذي نعيش هنا ، في هذا العدل هذا ، وهو قاذورة المجتمع ، حيث تصب فيه كل أنواع  الأفعال الشائنة ، نحن الذين نعتبر موضع ثقة لكل عيب أو عار ، ومدافعين متفائلين عن كل نذالة أو خسة بشرية .

كيلا أقول المدافعين عن كل غريب أطوار ، من الأمراء أو من الذين يحومون حول الأسيجة ، نحن الذين نستقبل بحلم وكياسة ورفق الابتسامة على محيانا ، كل الجناة والمجرمين كي ندافع عنهم أمامكم ، نحن من ، إذا كنا نحب فعلا مهنتنا .

نجعل تعاطفنا كمحامين بقدر الجرم المرتكب ، لن نستطيع من بعد أن نملك روحاً تحترم الآخرين ، نحن نرى بأم أعيننا ، هذا السيل من الفساد ، من رؤساء السلطة حتى آخر صعلوك ، ونعرف تمام المعرفة كيف تجري الأمور .

كيف تباع المكانات والمناصب والتكريم ، بشكل فظ ، مقابل القليل من الذهب ، وبمهارة مقابل صكوك وحصص في المؤسسات الصناعية ، أو مقابل قبلة من امرأة ، إن مهنتنا وواجبنا يلزمنا ألا نتجاهل شيئا ، أن نجعل من الجميع موضع شك ، لأن الكل مشتبه به ، وتصيبنا الدهشة حين نواجه شخصاً ، كالقاتل الماثل أمامكم ، يدين باحترام شديد يجعل منه آخر الأمر شهيد هذا الاحترام .

نحن أيها السادة ، لنا من الشرف بقدر ما لدينا عناية بالنظافة ، وذلك لاشمئزازنا من الدناءة ، بفضل شعور من الكرامه الشخصيه والأنفة ، غير أننا لا نحمل لهذا الشعور الايمان الأعمى الفطري والعنيف كما هو لدى هذا الرجل .

نشأة المتهم :
دعوني أري لكم سيرة حياته ، تربى ، كما تربى الأولاد فيما مضى ، وقد جعل من كل الأفعال البشرية قسمين : ما هو خير وما هو شر ، أظهروا له الخير بسلطة لا تقاوم جعلته يميزه عن الشر ، كما يميز الليل عن النهار ، لم يكن والده سليل جنس ذوي الأذهان الراقية التي حين تنظر من عل ، ترى ينابيع المعتقدات وتتعرف على الاحتياجات الاجتماعية التي فيها ولدت هذه التميزات .

زواجه :
شاب متدينا وواثقاً ، متحمسا ، زوج حين بلغ الثانية والعشرين ، من قريبة له تربت مثله ، وكانت بسيطة ونقية على غراره ، حالفه حظ لا يقدر بثمن في أن تكون رفيقة عمره امرأة عفيفة ، تربت مثله وكانت نقية وبسيطة على غراره ، ذات قلب مستقيم ، أعنى ما هو الأشد ندرة والأكثر مدعاة للاحترام في العالم .

عاش وهو يكن لوالدته الاجلال الذي يحيط بالأمهات في العائلات ذات النظام الأبوي ، هذا التكريم المخصص للآلهة ، تحول كل هذا إلى زوجته مع فارق ضئيل أوجبته العشرة الزوجية ، مضى يعيش في جهل مطلق للاحتيال والغش ، في حالة من الاستقامة الراسخة والسعادة ، جعلت منه كائن منفرداً ، فهو لا يخدع أحد ، ولم يشك بأن أحد قد يخدعه .

عمله وسمعته :
قبل فترة من زواجه ، عمل كموظف صندوق لدى السيد لانغليه ، الذي قتله موكلي مؤخراً ، نعلم أيها السادة المحلفون ، من خلال شهادات السيدة لانغيه ، وأخيها السيد بيرتوي ، شريك زوجها ، وكل العائلة وجميع كبار الموظفين ، في هذا المصرف ، أن لوجير ، كان موظفا نموذجا بأمانته ، وبطاعته ولطفه ، واحترامه لرؤسائه وبدقته .

وفعلًا كان لوجير يعامل باحترام استحقه بسلوكه المثالي ، وقد اعتاد هذا التكريم وهذا النوع من التقديس الذي بدأه نحو السيدة لوجير ، التي كان مديحها على كل لسان .

الوفاة والصدمة والتغيير :
توفيت السيدة لوجير بحمى التيفويد خلال بضعة أيام ، من المؤكد أنه شعر بألم عميق ، لكنه ألم بارد ، وبهدوؤ قلب منسق العواطف ، شحوبه وتغيير ملامحه كانا يفصحان عن مواجعه … حينئذ أيها السادة ، حدث أمر طبيعي !

هذا الرجل كان قد تزوج منذ عشر سنوات ، ومنذ عشر سنوات اعتاد أن يشعر على الدوام بوجود امرأة بالقرب منه ، اعتاد أن يحظى بعنايتها ، وعلى صوتها المألوف حين يعود ، وعلى تمنياته له بلبلة هانئة ، اعتاد على ذلك الحضور المحبوب الذي يجعل الساعات تمر بسرعة ، لم يعد يستطيع العيش بمفرده .

فمن أجل أن يمضي أمسياته التي لا نهاية لها ، طفق يذهب ليجلس ساعة أو اثنين في حانة مجاورة ، كان يشرب كأساً من الجعة  ، ويبقى هناك ساكنا ، يتابع بعينيه الشارتين كرات البلياردو تجري ، الواحدة بعد الأخرى ، تحت ضباب المدخنين ، ويسمع دون تفكير ، مشاحنات اللاعبين ، ونقاشات جيرانه في السياسة ، غالبًا ما كان ينتهي به الأمر إلى النوم من فرط تعبه وملله .

التعلق بفتاة البار :
كان يقترب قليلا كل مساء من طاولة المحاسبة ، حيث كانت أمينة الصندوق وهي فتاة شقراء ، صغيرة القد فينجذب نحوها بقوة لا ترد فهي امرأة ، بعد فترة وجيزة أصبحا يتحدثان ، فتمتلكه عادة ، لذيذة بالنسبة له وهي أن يمضي كل سهراته إلى جانبها ، كانت ناعمة وودودة ، كما هو مفترض فيمن تعمل في هذه المهنة ، كانت تتسلى في ملء كأسه مرات ومرات ، حسب متطلبات عملها ، لكن لوجير كان يزداد تعلقا يوما بعد يوم ، بتلك المرأة التي لم يكن يعرفها ، لكنه أحبها فقط لأنه لم يكن يرى غيرها امرأة .

خداع وزواج :
كانت تلك المرأة صغيرة وماكرة ، إذ أنها لاحظت بسرعة أنها قد تجني فائدة من هذا الساذج فبحثت عن أفضل طريقة لاستغلاله وكانت أذكاها بالتأكيد أن يتزوجها ، وقد نجح ذلك دون صعوبة !

خيانة :
هل عليّ أن أخبركم ، سادتي المحلفين ، بأن سيرة تلك الفتاة كانت نافلة إلى أقصى حد ، وأن الزواج لم يكبح انحلالها ، بل بالعكس زادها سفاهة وانحلال ، بدهائها الأنثوي ، بدت وكأنها تتلذذ بخيانة ذلك الرجل الشريف ، مع كل موظفي مكتبه ، أقول من الجميع لدينا رسائل أيها السادة ، نتج عن ذلك فضيحة مجلجلة ، وحده الزوج ، كما هو الحال دائمًا ، كان آخر من يعلم ..

أسباب الجريمة :
وأخيراً أوقعت تلك المنحلة ، لمنفعة يسهل فهمها ، ابن رب العمل بذاته وهو شاب لم يتجاوز عامه التاسع عشر ، وقد أحدثت على روحه وأحاسيسه تأثيرا يرثى لحاله ، كان السيد لانغيه قد أشاح بوجهه ، بدافع طيبته وصداقته لذلك الموظف ، عن تصرفات تلك المرأة ، لكنه حين شاهد ابنه بين يدي بل ذراعي ذلك المخلوق الخطير ، شعر بخطر شديد مبرر ومشروع ، غير أنه ارتكب خطأ عندما استدعى على الفور لوجير ، وكلمه تحت تأثير سخطه الأبوي ، لم يبق لي أيها السادة ، إلا أن أقرأ على مسامعكم عرضاً لوقائع الجريمة من فم المحتضر ذاته ، دونه المحقق .

الفصل من العمل :
كنت قد علمت للتو أن ولدي ، أعطى قبل يوم ، عشرة آلاف فرانك لهذه المرأة ، فتجاوز غضبي حدود العقل ، صحيح أنا ما شككت يومًا بكرامة وشرف لوجير ، لكن بعض التغاضي والضلال ، يكون أشد خطر من الزلل ، استدعيته وقلت له أنني مضطر أن أحرم نفسي من خدماته ، بقي واقفًا أمامي مشدوها غير قادر أن يفهم ، أخيراً طلب مني تفسيرًا بلهجة محتدة .

رفض الاعتراف بالأسباب :
رفضت أن أقدم له أي تفسير ، مؤكداً أن الأسباب خاصة ، حينئذ أعتقد بأنني كنت أعزو ذلك لفظاظته ، استحلفني وهو ممتقع اللون ، وأنذرني بأن أفصح ولما تملكته تلك الفكرة ، أحس بحقه بالكلام جهاراً ، وبما أنني لزمت الصمت شتمنى وأهانني وقد وصل إلى درجة من الغيظ خشيت بعدها من لجوءه للعنف ، وعند كلمة جارحة منه أصابتني في صميم قلبي ، رشقته بالحقيقة أمام عينيه ..

المفاجأة والصدمة والجريمة :
بقي واقفًا بضع ثوان ينظر إليّ بعينين تائهتين ، ثم رأيته يأخذ من مكتبي مقصا استخدمه في قرظ بعض السجلات ، ليهاجمني بساعده المرفوع ، فشعرت بشيء يخترق حلقي عند قمة الصدر دون الشعور بأي ألم ..

البراءة :
ها كم يا سادتي المحلفين ، عرضاً ووصفاً  لهذه الجريمة ، ماذا أقول للدفاع عنه ؟ .. لقد احترم زوجته الثانية بلا تبصر ، لأنه كان قد احترم الأولى بعقلانيه .. وبعد مداولة قصيرة أعلنت براءة المتهم.

شاهد أيضاً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Instaraby